کد مطلب:323816 شنبه 1 فروردين 1394 آمار بازدید:349

الاباحیة بین دارون و البهاء
«و أكبر الظن أن هذا التجدد فی الاقبال علی اللذة، قد تعاون اكثر مما نظن مع هجوم دارون علی المعتقدات الدینیة و كذلك ادعاءات البهائیین و هدمهم للأدیان. و حین اكتشف الشبان و الفتیات - و قد أكسبهم المال جرأة - أن الدین یشهر بملاذهم التمسوا فی العلم ألف سبب و سبب للتشهیر بالدین. و أدی التزمت فی حجب الحیاة الجنسیة و الزهد فیها الی رد فعل الأدب و علم النفس صور الجنس مرادفا للحیاة. و قد كان علماء اللاهوت قدیما یتجادلون فی مسألة لمس ید الفتاة أیكون ذنبا؟ أما الآن قلنا أن ندهش و نقول: ألیس من الاجرام أن
نری تلك الید و لا نقبلها؟ لقد فقد الناس الایمان و أخذوا یتجهون نحو القرار من الحذر القدیم الی التجربة الطائشة.

«و كانت الحرب العظمی الاولی آخر عامل فی هذا التغییر. ذلك أن تلك الحرب قوضت تقالید التعاون و السلام المتكونین فی ظل الصناعة و التجارة، و عودت الجنود الوحشیة و الاباحیة. حتی اذا وضعت الحرب أوزارها عاد آلاف منهم الی بلادهم فكانوا بؤرة للفساد الخلقی. و أدت تلك الحرب الی رخص قیمة الحیاة بكثرة ما أطاحت من رؤوس. و مهدت الی ظهور العصابات و الجرائم القائمة علی الاضطرابات النفسیة، و حطمت الایمان بالعنایة الالهیة، و انتزعت من الضمیر سند العقیدة الدینیة [1] و بعد انتهاء معركة الخیر و الشر بما فیها من مثالیة و وحدة، ظهر جیل مخدوع و ألقی بنفسه فی أحضان الاستهتار و الفردیة و الانحلال الخلقی. و أصبحت الحكومات فی واد و الشعب فی واد آخر، و استأنفت الطبقات الصراع فیما بینها و استهدفت الصناعات الربح، بصرف النظر عن الصالح العام، و تجنب الرجال الزواج خشیة مسؤولیته، و انتهی الأمر بالنساء الی عبودیة خاملة، أو الی طفیلیات فاسدة. و رأی الشباب نفسه و قد منح حریات جدیدة تحمیه الاختراعات من نتائج المغامرات النسائیة فی الماضی [2] و تحوطه من كل جانب ملایین المؤثرات الجنسیة فی الفن و الحیاة»... [3] .
«و لما كان الیوم هو عصر الآلة، فلا بد أن یتغیر كل شی ء. فقد قل أمن الفرد فی الوقت الذی نما فیه الأمن الاجتماعی. و اذا كانت الحیاة الجسمانیة أعظم أمنا مما كانت، فالحیاة الاقتصادیة مثقلة بألف مشكلة معقدة، مما یجعل الخطر جاثما كل لحظة. أما الشباب الذی أصبح أكثر اقداما و أشد غرورا من قبل، فهو عاجز مادیا، و جاهل اقتصادیا الی حد لم یسبق له مثیل. و یقبل الحب فلا یجرؤ الشباب علی الزواج و جیوبه صفر من المال. ثم یطرق الحب مرة أخری باب القلب أكثر ضعفا (و قد مرت السنوات) و مع ذلك لم تمتلی ء الجیوب بما یكفی الزواج. ثم یقبل الحب مرة أخری أضعف حیویة و قوة عما كان من قبل (و قد مرت سنوات) فیجد الجیوب عامرة، فیحتفل الزواج بموت الحب.

«حتی اذا سئمت فتاة المدینة الانتظار اندفعت بما لم یسبق له مثیل فی تیار المغامرات الواهیة. فهی واقعة تحت تأثیر اغراء مخیف من الغزل و التسلیة و هدایا من الجوارب و حفلات من الشمبانیا فی نظیر الاستمتاع بالمباهج الجنسیة. و قد ترجع حریة سلوكها فی بعض الأحیان الی انعكاس حریتها الاقتصادیة. فلم تعد تعتمد علی الرجل فی معاشها، و قد لا یقبل الرجل علی الزواج من امرأة برعت مثله فی فنون الحب. فقدرتها علی كسب دخل حسن هو الذی یجعل الزوج المنتظر مترددا، اذ كیف یمكن ان یكفی أجره المتواضع للأنفاق علیهما معا فی مستواهما الحاضر من المعیشة؟

«و اخیرا تجد الرفیق یطلب یدها للزواج، و یعقد علیها لا فی كنیسة. لانهما من أحرار الفكر الذین ألحدوا عن الدین، و لم یعد للقانون الخلقی الذی ظل جاثما علی ایمانهما المهجور أثر فی قلبیهما. انهما یتزوجان فی قبو المكتب البلدی (الذی یفوح منه عبیر الساسة) و یستمعان الی تعاویذ العمدة. انهما لا یرتبطان بكلمة الشرف، بل بعقد من المصلحة لهما الحریة فی أی وقت فی التحلل منه. فلا مراسیم مهیبة، و لا خطبة عظیمة، و لا موسیقی رائعة، و لا عمق و لا نشوة فی
الانفعال تحیل ألفاظ و عودهم الی ذكریات لا تمحی من صفحة الذهن. ثم یقبل أحدهما صاحبه ضاحكا، و یتوجهان فی صخب.

«انه لیس بیتا! فلیس ثمة كوخ ینتظر الترحیب بهما أنشی ء وسط الحشائش النضرة و الأشجار الظلیلة، و لا حدیقة تنبت لهما الزهور و الخضروات التی یشعران بأنها أبهی و أحلی لأنها من زرع أیدیهما. بل یجب أن یخفیا أنفسهما خجلا كأنهما فی زنزانة سجن، فی حجرات ضیقة لا یمكن أن تستبقیهما فیها طویلا، و لا یعنیان بتحسینها و تزیینها بما یعبر عن شخصیتهما. لیس هذا المسكن شیئا روحیا كالبیت الذی كان یتخذ مظهرا و یكسب روحا قبل ذلك بعشرین عاما (الكتاب مكتوب سنة 1929) بل مجرد شی ء مادی فیه من الجفاف و البرودة ما تجده فی مارستان. فهو یقوم وسط الضوضاء و الحجارة و الحدید حیث لا ینفذ الیه ربیع، لا ینبت لهما الصیف الزرع النضر بل سیلا من المطر. و لا یریان مع ورود الخریف قوس قزح فی السماء او أی ألوان علی أوراق الشجر، بل المتاعب و الذكریات الحزینة.

«و تصاب المرأة بخیبة أمل. فهی لا تجد فی هذا البیت شیئا یجعل جدرانه تحتمل فی اللیل و النهار، و لا تلبث الا قلیلا حتی تهجره فی كل مناسبة و لا تعود الیه الا قبل مطلع الفجر. و یخیب أمل الرجل، فهو لا یستطیع أن یتجول فی أنحاء هذا البیت، یعزی شعوره ببنائه و اصلاحه ما تصاب به أصابعه من دق المطارق. و یكتشف بعد قلیل ان هذه الحجرات تشبه تمام الشبه تلك التی كان یعیش فیها و هو أعزب، و أن علاقاته مع زوجته تشبه شبها عادیا تلك العلاقات غیر البریئة التی كان یعقدها مع المستهترات من النساء. فلا جدید فی هذا البیت، و لیس فیه ما ینمو، و لا یمزق سكون اللیل صوت الرضیع، و لا یملأ مرح الأطفال النهار بهجة، و لا أذرع بضة تستقبل الزوج عند عودته من العمل و تخفف عنه و طأته. اذ این یمكن أن یلعب الطفل؟ و كیف یمكن للزوجین تخصیص حجرة أخری للأطفال و توفیر العنایة بهم و تعلیمهم سنین طویلة فی المدینة؟ و الفطنة فیما
یظنان أفضل جوانب الحب... فیعتزمان منع النسل... الی أن یقع بینهما الطلاق!

«و لما زواجهما لیس زواجا بالمعنی الصحیح - لأنه صلة جنسیة لا رباط أبوة - فانه یفسد لفقدانه الأساس الذی یقوم علیه، و مقومات الحیاة. یموت هذا الزواج لا نفصاله عن الحیاة و عن النوع. و ینكمش الزوجان فی نفسیهما وحیدین كأنهما قطعتان منفصلتان. و تنتهی الغیریة الموجودة فی الحب الی فردیة یبعثها ضغط حیاة المساخر. و تعود الی الرجل رغبته الطبیعیة فی التنویع، حین تؤدی الألفة الی الاستخفاف. فلیس عند المرأة جدید تبذله أكثر مما بذلته» [4] .

«و لندع غیرنا من الذین یعرفون یخبرونا عن نتائج تجاربنا. أكبر الظن أنها لن تكون شیئا نرغب فیه أو نریده. فنحن غارقون فی تبار من التغییر، سیحملنا بلا ریب الی نهایات محتومة لا حیلة لنا فی اختیارها. و أی شی ء قد یحدث مع هذا الفیضان الجارف من العادات و التقالید و النظم، افلآن و قد أخذ البیت فی مدننا الكبری فی الاختفاء، فقد فقد الزواج القاصر علی واحدة جاذبیته الهامة. و لا ریب أن زواج المتعة سیظفر بتأیید أكثر فأكثر حیث لا یكون النسل مقصودا. و سیزداد الزواج الحر، مباحا كان أم غیر مباح. و مع أن حریتهما الی جانب الرجل أمیل، فسوف تعتبر المرأة هذا الزواج أقل شرا من عزلة عقیمة تقضیها فی أیام لا یغازلها أحد. سینهار «المستوی المزدوج» و ستحث المرأة الرجل بعد تقلیده فی كل شی ء علی التجربة قبل الزواج. سینمو الطلاق، و تزدحم المدن بضحایا الزیجات المحطمة. ثم یصاغ نظام الزواج بأسره فی صور جدیدة أكثر سماحة.

و عندما یتم تصنیع المرأة، و یصبح ضبط الحمل سرا شائعا فی كل طبقة، یضحی
الحمل أمرا عارضا فی حیاة المرأة، أو تحل نظم الدولة الخاصة بتربیة الأطفال محل عنایة البیت.. هذا كل شی ء!..» [5] .


[1] يعترف هنا بسوء الاثر الذي أحدثه تحطيم الايمان بالعناية الالهية و انتزاع سند العقيدة الدينية من الضمير. بينما هو في كتابه كله لا يستهدف غرضا أظهر من تحطيم الايمان بالعناية الالهية و انتزاع سند العقيدة الدينية من الضمير، و الزراية علي الايمان بالغيب و علي زواجر العلوية!!! سيد قطب: السابق ص 139.

[2] يشير الي وسائل منع الحمل و الوقاية من الأمراض السرية، الأمران اللذان و فرتهما الحضارة.. سيد قطب: السابق ص 139.

[3] ويل ديورانت: السابق ص 136 - 135.

[4] ويل ديورانت، المرجع السابق، ص 225 - 223.

[5] المرجع نفسه ص 236 - 235..

يلاحظ ان هذا كله قد ثم في امريكا كما توقع الكاتب، و ان هذا البلاء يزحف علينا زحفا نكدا كتيبا: سيد قطب: السابق ص 142.